[فصل من رواية "فرانكشتاين في بغداد" لأحمد سعداوي التي صدرت هذا الشهر عن دار الجمل]
الكذّاب
1
كي يجعل لقصته جاذبية أكثر كان هادي العتاگ حريصاً على ايراد التفاصيل الواقعية. وهو يتذكر هذه التفاصيل كلها ويوردها في كل مرة يروي فيها أحداث القصة التي حدثت معه. ها هو في مقهى عزيز المصري على التخت الذي في الزاوية الملاصقة لزجاج واجهة المقهى، يجلس ويمسح على شاربيه ولحيته المفرقة، ثم يطرق بالملعقة الصغيرة بقوة في قعر استكان الشاي ويرشف رشفتين قبل أن يبدأ بسرد الحكاية من جديد، وهذه المرة على شرف بضعة ضيوف جدد اغراهم عزيز المصري بسماع حكايات وأكاذيب هادي العتاگ.
كان الضيوف؛ صحفية ألمانية شقراء ضامرة ترتدي نظارة طبية سميكة تعلو انفاً دقيقاً وشفتين رفيعتين تجلس مع مترجمها العراقي الشاب ومصور فلسطيني بكاميرا محمولة على التخت المقابل لهادي العتاگ بالإضافة الى صحفي شاب أسمر البشرة هو محمود السوادي القادم من مدينة الِعْماره جنوب العراق والمقيم حالياً في فندق "العروبة" العائد لأبي أنمار.
كانت الصحفية الالمانية ترافق محمود السوادي في يوم عمل معتاد من أجل إعداد فيلم وثائقي عن عمل الصحفيين العراقيين داخل بغداد. تصوره وهو يتجول ويجمع مادته من الشارع، مع تعليقات منه على الأحداث والمصاعب التي يواجهها، ولم تكن تخطط لسماع حكاية طويلة ومعقدة يرويها جامع أنتيكات جاحظ العينين يرتدي ملابس رثة ومبقعة بحرائق السجائر وتفوح منه رائحة مشروبات كحولية. خصوصاً وان خروجها الى شوارع بغداد بهيئتها الملفتة لا يخلو من مجازفة، لذلك لم تفتح الكاميرا واكتفت بالإنصات ريثما تكمل شرب استكان الشاي، تلتفت كل حين الى مترجمها العراقي فيصرف كلاماً كثيراً لتوضيح ما يقوله العتاگ.
لم تصل الى نهاية الحكاية. كان الجو ربيعياً دافئاً، وتفضل صرف المتبقي من نهارها في استنشاق هواء نقي، وعليها، إضافة الى ذلك، العودة الى مكتب الخدمات الاعلامية في فندق الشيراتون من أجل تفريغ اشرطة التسجيل الذي عملته مع محمود السوادي خلال نهار اليوم.
قالت لمحمود وهما يخرجان من المقهى، وقبل أن تودعه:
ـ هذا يروي فلماً... انه يقتبس من فلم شهير لروبرت دي نيرو.
ـ نعم.. هو يشاهد افلاماً كثيرة على ما يبدو.. انه شخص مشهور في المنطقة.
ـ كان عليه أن يذهب الى هوليوود إذن.
قالت ضاحكة قبل أن تركب سيارة البروتون البيضاء العائدة للمترجم.
2
لم يكن الأمر مزعجاً لهادي العتاگ. هناك من يغادر قاعة السينما في منتصف الفلم. الأمر عادي جداً.
ـ أين وصلنا.
قال هادي وهو يرى محمود السوادي يعود ليجلس في التخت المقابل له. توقف عزيز المصري وهو يحمل استكانات الشاي الفارغة في يده وافرد ابتسامة عريضة منتظراً أن يشرع العتاگ في حكايته.
ـ لقد وصلنا الى الانفجار.
قال عزيز المصري.
ـ الانفجار الأول لو الثاني؟
سأل العتاگ.
ـ الأول... في ساحة الطيران.
قال محمود كي يجعله يستأنف الحكاية، منتظراً ان يقع في تناقض ما، فينسى مثلاً بعض التفاصيل أو يحرّفها، حتى يفضح نفسه بنفسه. يسمع محمود الحكاية للمرة الثانية أو الثالثة من أجل هذا فحسب.
كان الانفجار فظيعاً. نظر هادي الى عزيز كي يساعده في التأكيد. لقد خرج هادي راكضاً من المقهى هنا. كان يأكل الباقلاء بالدهن التي يصنعها علي السيد في المحل المجاور ويفطر بها هادي كل صباح. ارتطم في الطريق بأجساد الهاربين من الانفجار. وغزا انفه الدخان من بعيد، دخان الانفجار واحتراق بلاستيك و"كشنات" السيارات وشواء الأجساد. رائحة لن تشم مثلها في حياتك. وتبقى تتذكرها ما حييت.
كان الجو غائماً ينبئ بمطر غزير والعمال يصطفون بإعداد كبيرة على الرصيف المقابل لكنيسة الارمن البيضاء الفخمة ذات المنائر المضلعة والمخروطية بصلبانها السميكة. ينظرون الى الكنيسة الصامتة ويدخنون ويثرثرون أو يشربون الشاي مع الكعك عند بسطات باعة الشاي المتناثرين على الرصيف العريض، أو يأكلون الشلغم أو الباقلاء في العربات المجاورة لهم. يترقبون وقوف سيارة تطلب عمالاً بأجرة يومية، أو اسطوات للبناء أو التهديم. وعلى مقربة من ذات الرصيف تقف باصات الكيا أو الكوستر وهي تنادي على خطوطها للكرادة والجامعة التكنولوجية، وفي الرصيف المقابل أشياء مشابهة؛ سيارات وبسطات لباعة سجائر وحلويات وملابس داخلية وأشياء كثيرة. وقفت سيارة دفع رباعي رصاصية اللون، فنهض أغلب العمال الجالسين على الرصيف، وحين اقترب بعضهم منها انفجرت بقوة. هذه اللحظة بالذات لم يكن هناك من هو قادر على تحديدها. الأمر جرى في أجزاء من الثواني؛ الذين لم يصابوا بمكروه، بسبب بعدهم عن مكان الحادث، أو لأنهم تغطو بأجساد الآخرين أو كانوا خلف بدن سيارات واقفة أو لأنهم كانوا في أحد الأزقة وفاجأهم الانفجار قبل أن يخرجوا الى الشارع، هؤلاء كلهم وغيرهم، من العاملين في مكاتب تجارية في العمارة المجاورة لكنيسة الارمن، وبعض سائقي السيارات البعيدة، كلهم انتبهوا الى الانفجار في اللحظة التي غدا فيها كتلةً من اللهب والدخان تأكل السيارات وأجساد البشر المحيطين بها، وتقطع بعض أسلاك الكهرباء وربما قتلت عدداً من الطيور والعصافير، مع تناثر الزجاج وتخسف الأبواب وتصدع جدران البيوت القريبة وتداعي بعض السقوف القديمة في حي البتاويين، واضرار أخرى غير منظورة انبثقت كلها في وقت واحد ولحظة واحدة.
كان هادي يراقب المشهد بعد همود الصوت وارتفاع غيمة الدخان الكبيرة التي ولّدها الانفجار وبقاء خيوط دخانية سوداء ترتفع من السيارات مع ألسنة اللهب وتناثر أجزاء صغيرة محترقة أيضاً على الأرصفة. جاءت سيارات الشرطة بسرعة وطوقت المكان. كان هناك جرحى يئنون، والكثير من الأجساد النائمة أو المتحاضنة والمكومة فوق بعضها على الرصيف وقد تغطت بمزيج من اللونين الأحمر والأسود.
يؤكد هادي العتاگ انه، حين وصل الى المكان، ظل واقفاً عند ركن محال بيع أدوات بناء وعدد يدوية يراقب المشهد بهدوء تام. كان يدخّن. أشعل سيجارة وبدأ يدخّن، وكأنه يحاول طرد روائح الدخان العجيب. كانت صورته كشرير غير مبالٍ تسعده، وينتظر، بسببها، ردة فعل معينة في وجوه من يستمعون إليه.
جاءت سيارات الإسعاف وحملت الجرحى والقتلى، ثم جاءت سيارات الإطفاء وأطفأت الحرائق في السيارات ثم سحبتها سيارات قطر المركبات نوع دوج الى مكان غير معلوم، واستمرت خراطيم مياه الاطفائية في غسل المكان من الدماء والرماد. ظل هادي يراقب المشهد بتركيز شديد. كان يبحث عن شيء ما وسط مهرجان الخراب والدمار هذا. وبعد ان تأكد من مشاهدته، رما سيجارته على الأرض وانطلق مسرعاً ليلتقطه من الأرض قبل أن تدفعه المياه القوية لخراطيم الاطفاء الى فتحة المنهول في الرصيف. رفعه ولفه بكيس الجنفاص وطواه تحت ابطه وغادر مسرعاً.
3
وصل الى بيته قبل أن تبدأ السماء زختها المطرية. عبر أرضية الحوش المخلعة بخطوات كبيرة ثم دخل الى غرفته ووضع كيس الجنفاص المطوي على السرير، وظل يتابع صوت الصفير في انفه وصدره بسبب انفاسه المتسارعة. نظر الى كيس الجنفاص المطوي، وقرّب يده منه ثم ألغى الفكرة أو أجّلها قليلاً، مفضلاً الإنصات لصوت رشقات المطر التي بدأت تنزل بخجل ثم تتسارع بعدها بلحظات وتتحول الى زخات كثيفة غاسلة الحوش والزقاق والشوارع وساحة الطيران وآثار جميع الحوادث المؤلمة التي حصلت في العاصمة خلال هذا النهار.
دخل الى "بيته". و"بيته" هذا وصف مبالغ فيه قليلاً. يعرف الكثيرون، وبالذات عزيز المصري، هذا البيت جيداً، فعزيز قبل زواجه وتركه ليوميات العبث، كان يجلس مع هادي على مائدة واحدة في "بيته" يسكران حتى ساعة متأخرة، وربما وجد عنده واحدة أو اثنتين من مومسات زقاق خمسة، فتحلو السهرة أكثر. وهادي يصرف من دون حساب وينفق كل أمواله على متعه الشخصية.
إنه ليس بيته، وهو ليس بيتاً على وجه الدقة. فأغلب ما فيه مهدم، وليس هناك سوى غرفة في العمق ذات سقف متصدع حوّلها هادي العتاگ مع زميل له اسمه ناهم عبدكي قبل ثلاث سنوات تقريباً الى مقرّ لهما.
الكثيرون في الحي يعرفون هادي العتاگ وناهم عبدكي قبل هذا بسنوات. كانا يمران بعربة يجرها حصان لشراء الأغراض المستعملة والقدور والاجهزة الكهربائية المعطلة. يقفان صباحاً بجوار مقهى عزيز المصري لتناول الفطور وشرب الشاي قبل إنجاز جولة واسعة في حي البتاويين وحي ابو نواس المقابل له على الضفة الثانية من شارع السعدون، ثم يتجهان بعربة الحصان العائدة لناهم عبدكي الى مناطق أخرى ويصلان الى الكرادة ويمران في ازقتها، ثم يختفيان.
بعد الاحتلال وشيوع الفوضى شاهد الجميع كيف عمل هادي وناهم على اعادة ترميم "الخرابة اليهودية" كما كانت تسمى، رغم أنهم لم يروا فيها أي شيء يهودي، لا شمعدانات ولا نجمات سداسية ولا حروف عبرية. اعاد هادي بناء السياج الخارجي للبيت من ذات المواد الموجودة، وثبت الباب الخشبي الكبير الذي كان مغطى بركام الطابوق والطين. ازاح الاحجار عن الحوش ورمم الغرفة السليمة الوحيدة وترك الجدران النصفية والسقوف المتهاوية للغرف الباقية على حالها. كان هناك جدار سليم مع شباك لغرفة الطابق الثاني فوق غرفة هادي يهدد الواقف في الحوش بالانهيار نحوه ودفنه حياً، ولكن هذا الجدار لم يسقط أبداً، وأدرك سكان الحي لاحقاً ان هادي وصديقه ناهم باتا من سكان الحي. حتى فرج الدلال ذو الشهوة المفتوحة للاستيلاء على بيوت الأموال المجمّدة التي تركها اهلها، لم يكترث لما فعله العتاگ. وظل المكان بالنسبة له مجرد "خرابة يهودية" كما هو شأنها دائماً.
من أين جاء هذان الرجلان؟ لم يتوقف أحد ما كثيراً أمام هذا السؤال، فالحي يعج بالغرباء الذين تراكموا فوق بعضهم البعض عبر عقود طويلة، ولا يستطيع أحد أن يؤكد انه من السكان الأصليين هنا. بعد سنة أو سنتين تزوج ناهم وأجر بيتاً داخل البتاويين، وترك الاقامة مع هادي، رغم أنهما ظلا يعملان سوية على عربة الحصان.
كان ناهم أصغر من هادي، تجاوز منتصف الثلاثين من عمره، ويمكن الافتراض انه مع هادي مثل الأب وابنه. ولكنهما لا يتشابهان في المظهر. ناهم ذو رأس صغير واذنين كبيرتين، مع فروة رأس كثيفة وسرحة ولكنها مثل الأسلاك الخشنة، وحاجبين كثيفين شبه متصلين. وكان هادي يتندر عليه بقوله:
ـ لو صار عمرك 120 سنة فلن يسقط شعر رأسك أبداً.
ومقارنة بناهم كان هادي قد تجاوز الخمسين من عمره، رغم صعوبة تحديد عمره بالضبط، مشعث دائماً بلحية مفرقة غير مشذبة، بجسد ناشف ولكنه صلب ونشيط ووجه عظمي بفجوتين تحت الوجنتين.
كان هادي يسمي ناهم "المگرود"، وعلى خلاف أستاذه فهو لا يدخن ولا يشرب الخمر ويخاف من الأمور المتعلقة بالدين كثيراً، ولم يمسس امرأة في حياته حتى يوم زواجه. وهو الذي عمّد، بوساوسه الدينية، البيت الذي سكنا فيه بعد اصلاحه، فوضع قطعة كارتون مربعة كبيرة تحوي آية الكرسي على أحد جدران الغرفة التي سكنا فيها سوية. لصقها بالعجين ليضمن صعوبة انتزاعها من مكانها مالم تتمزق نهائياً، ورغم أن هادي لا يكترث كثيراً بقضايا الدين إلا انه لا يرغب ان يبدو وكأنه عدو أو شخص مارق، لذلك أمضى على خطوة رفيقه وتلميذه، وترك الآية تطلّ عليه كأول شيء يراه في بداية النهار.
للأسف لم يبلغ ناهم سناً يختبر فيه مدى متانة فروة رأسه كما يؤكد له هادي دائماً. قبل بضعة أشهر من جلسة هادي العتاگ في مقهى عزيز المصري أمام محمود السوادي وبعض الرجال العجائز وهو يكمل سرد قصته الخيالية، انفجرت سيارة ملغمة أمام أحد مقار الأحزاب الدينية في حي الكرادة وقتلت بضعة مواطنين من المارة وقتلت ناهم مع حصانه، وخلطت لحمهما معاً.
تغيرت هيئة هادي فجأة بسبب الصدمة، صار عدوانياً، يشتم ويجدف ويرمي الحجارة خلف الهمرات الأميركية أو سيارات الشرطة والحرس الوطني، ويتعارك مع أي شخص يفتح أمامه سيرة ناهم عبدكي وما جرى له. انزوى فترة ثم عاد بعدها الى صورته السابقة؛ يضحك ويروي الحكايات العجيبة، ولكنه مثل من أصبح بوجهين أو قناعين، فما ان يترك لوحده حتى يرتدي وجهاً متجهماً قانطاً لم يكن معروفاً عنه. كما انه بات يشرب خلال النهار، وأرباع العرق أو الويسكي في جيبه دائماً ورائحة الخمر لم تعد تفارقه، وغدا أكثر قذارة بلحية نامية وملابس متسخة.
تم محو سيرة ناهم عبدكي بشكل نهائي لتجنب بذاءة هادي وانفعالاته غير المتوقعة، لذا لم يعرف محمود السوادي هذه القصة إلا في وقت لاحق، وعلى وفق رواية عزيز المصري.